الخميس، 23 يوليو 2009

قراءة في قصيدة(عمر) لفليحة حسن

إن موضوع النقد البحث عن بنية المعنى في ذهنية القارئ بوصفها استجابة إدراكية لقصد المؤلف أو معالجة ذهنية للنص، فيكون النص بوصفه وحدة متكاملة ميدان عمل الناقد يتناوله من جوانب متعددة منها اللغوي ( النحوي و الدلالي ) والبرغماتي ( أي الفائدة المتحققة من الخوض فيه بحثاً عن قصد المؤلف ) .
إلا إن مقابلة النص بذهنية اللغوي المحضة لن تفضي سوى إلى تفسير قاصر ما لم تكن تلك المقابلة قائمة على سيكولوجية شاملة للقارئ في إزاء مثيلتها للكاتب ، بمعنى آخر إن لدارس أي نص شعري أن يستثمر جميع معارفه وثقافته وجهده الذهني من اجل التوصل الى تأويلات ممكنة للنص الشعري إذ يمكننا أن نستفيد من مستوى فوق - لغوي ، لو صح التعبير ، مستنيرين في هذا الإطار برؤية سوبيرب و ولسن التي تترجم الى العربية بنظرية الموائمة ( أو النجوع) القائمة على مبدأ التكلفة والربح في التأويل فتقول إننا كلما ازددنا إحاطة بالثقافة التي انطلق منها النص واتسعت تجربتنا ومعرفتنا اللغوية كلما أنفقنا جهداً اقل في التوصل الى تأويل هو الأقرب الى قصد الكاتب .
باختصار ، إن المنهج الذي سأعتمده في تحليل قصيدة (عمر)لفليحة حسن هو نفسه الذي اعتمدته في تحليل عدد من القصائد الانكليزية ( ليتس وفروست وتوماس ) إذ يتلخص بمستويات ثلاث هي :
•1. المعنى المعجمي لمفردات ومكونات القصيدة
•2. المعنى القائم على التركيب الناتج من إحالة المعنى المعجمي الى بناه النحوية
•3. معنى الموائمة ( أو النجوع ) أي مدى الاستفادة المتحققة من النص لدى القارئ ( أو الدارس)
للشاعرة فليحة حسن تجربتها الشعرية التي تمخضت عن عدد من المجاميع الشعرية كانت مجموعة ( ولو بعد حين) التي نراها انضج تجاربها مع اعتزازنا بكل ما كتبت من قبل .
لقد أفصحت فليحة عن رؤية وموقف يخصانها وبأسلوب تميزت به .
تحاول فليحة في قصيدة (عمر) أن تظهر نفسها متحكمة بعمرها فتقسمه بتهكم بين (بنات لم تعرف بعد العدّ على أصابعها ) و(رجل) يقبع فوق عمرها كالحرب .
نحن بدورنا سنقسم القصيدة الى ثلاثة مقاطع بحسب الأفكار المقدمة فيها وعوالمها المتباينة ، فنبدأ أولاً بالمقطع :
(واقسم أيامي
نصف لبنات لم تعرف بعد العد على أصبعها
أو المشي حاسرة القلب
ونصف
للرجل القابع فوق العمر ثقيلا كالحرب
أو كالكف بلا شهقة عطر)
يعبّر الفعل المضارع ( اقسّم ) عن ديمومة هذا الفعل وعدم اقتصاره على وقت معين فكان كما يبدو ديدنها في تجزئة العمر فلم تقل ( قسمت ) فتعطي بعدا واقعيا للفعل أو ( سأقسّم ) فتعطي واقعيته مستقبلية له ، إنما يتعزز ذلك باستعمال ( الواو) في بداية القول فيكون بذلك استمرارا لفعل متكرر فالمتحدثة تقسم أيامها على امتدادها فتكون بذلك تلك الأيام هي عمرها بكامله المتصف بالشدائد والأهوال ، إذ إن مفردة ( أيام) ترمز لهذا فهي بلسان الحال تقول ( أيامي ......عمري ) ولن يأخذ منها المقام طويلاً فعمر الشاعرة ليس سوى ( أيام ) معدودة يسهل تقسيمها.
وهنا بنبرة تستبطن المرارة والاستهزاء تعطي المتحدثة نصف تلك الأيام الى (بنات )لم تعرف بعد أن تعد على أصابعها ولا تعرف كيف تشي بمشاعرها فهي لما تزل صغيرة وجاهلة مثلما يتضح من كلمة ( بعدُ ) غير قادرات على الإفصاح عما يعتمل فيهن من مشاعر .
مع ذلك فالمتحدثة تهدر نصف عمرها لهن هنا يمكننا ان نتلمس تحت السطح مقارنة بينها ( المتحدثة ) القادرة على التعبير عن مشاعرها وبين تلك البنات مما يستبطن استنكارا وعدم رضا عن هذا التقسيم فيحمل هذا السطر ضياع هذا النصف مبكرا .
ثم تتحول الى النصف الآخر المعطى للرجل الجاثم بلا حركة فوق ( العمر ) فتفصح عن معنى مفردة ( الأيام) بجلاء واصفة إياها صراحة بأنها ( عمرها ) ، لكنها مع ذلك تذعن لهذا الخنوع لأنه هامد وثقيل مثلما هي الحرب تجثم فوق الأرواح فلا تستطيع منها انفلاتا ، وتبدأ باستسلام في البحث عن عطر غائب كانت تتمنى أن تستنشقه في كف ذلك الرجل لعلها تجد فيه عبير الحياة في مقابل الموت المتمثل بالحرب .
لم يكن الرجل القابع فوق العمر بأعظم من الحرب فتقسيم الجملة يظهر ذلك فالرجل الذي صوّرته قابعا ساكتا وهامدا ثقيلا كان يشبه الحرب بدلالة الكاف فهو ليس بعظمة الحرب وإنما يشبهها لأنه أيضاً لا يمتلك عبير الحياة في كفيه إذن فالحرب هي التي تلتهم نصف أيام الشاعرة أما الرجل فلم يكن أمل ضائع بإيقاف سطوة الحرب .
ولان الشاعرة لم تجد العطر الذي تبحث عنه تصنعه ضمنا في قائمة الأحلام في المقطع التالي :
( وما يبقى
أصيره أطياراً حبلى بالأبيض
ونوارس هاربة
وفراشات تلثغ بالسحر
وعلامات للدهشة
وأقاصيص عن الجان
وعن المرجان
يسكن في أعماق الحلم المحكي من الجدة
وهي تحذرني
أن ابتعدي
كيما يبرد قلب البحر
وانس التحذير )
كل هذه أحلام تقع خارج الأيام المقسمة الى نصفين و تسكن في أعماق الحلم المحكي من الجدة ، وهذا كل ماتبقى لديها فتصيّره بإرادتها الى صور تتمناها لأطيار مفعمة بالبياض ولم تقل بيضاء لان الدلالة اللونية في القصيدة دلالة معنوية تشير الى البراءة والنقاء وتشكل صورا لنوارس هاربة غير مقيدة ولفراشات تلثغ بلغة الأطفال .
والى علامات دهشة ترتسم في الحقيقة على وجه الشاعرة وهي تتفحص ما ترسم ألان والى أقاصيص عن الجان والمرجان وهي كلها علامات سيمائية تحيل الى عالم الطفولة المفعم بالأمل ثم تجعل جميع الإشكال الحلمية هذه تسبح في بحر الخيال الدافئ والنابض بالحياة ، لكنها في الوقت نفسه تخاف على قلب البحر إن يبرد ويفقد حياته مثلها لو اقتربت منه بجمودها المنقسم بين وجودين هامدين وتختار الشاعرة جدتها لتطلق التحذير من الخلط بين الموت الحاضر وبين الخيال الطائر والنابض بالحركة بدليل مكوناته المحلّقة والمدهشة واللاثغة بالسحر فالجدة تمثل الطفولة أيضاً وبراءتها المتصلة مباشرة بعالم الأحلام إذ يقترن ذلك بالعلامات الطفولية الأخرى كالثغ الصادر من الفراشات والأطيار الحبلى بالأبيض ، وهذا عمر الشاعرة الحقيقي موزع بين الطفولة والأحلام وفي ما عدا ذلك أيام بلا عواطف حاسرة وبلا شهقة عطر .
وفي المقطع الثالث تقول :
(أطوف بعيدا في طيات الرأس
لكن ........
الساعة تصيح بأحلامي
فأعود ...
اقسم أيامي
نصف
لبنات لم تعرف بعد القفز
لأعلى
من حبل غسيل تثقله أثواب الصوف
ونصف
للرجل الجالس في الصمت
بعيداً
يمتصّ رحيق الحاضر
ويلعن مرّ المستقبل .)
تعود الشاعرة هنا وتنسى التحذير ، بل إنها تتناسها من اجل أن تتيح لنفسها التفتيش بين طيات رأسها المسكون بالفراشات التي تلثغ بغنج ورقة وبمرجان البحر الغامر لعوالمها اليوتوبيائية ، متمثلا بالتحدي لمواجهة واقعها المتشظي بين عوالم ظلامية في طيات العتمة وتظل تقلبها حتى تصيح بها ساعة الواقع المرّ فتعود بعد أن لم تستطيع استدراج الحلم الى الواقع فتقسم أيامها بملء إرادتها هذه المرة ، وتظهر بصورة ليست كتلك المغلوبة على أمرها في بداية القصيدة .
مع ذلك فالتقسيم هذه المرة جاء اشد مرارة وسخرية لإدراكها لعبثية هذا التقسيم فتعطي نصف عمرها الذي لا ينتمي الى عالمها اليوتوبيائي الى بنات اقترن وجودهن بحبل الغسيل الممتد فوقهن وهن عاجزات عن بلوغه وان كان ثقيلا ومتهدلا بأثواب الصوف - إذ تضيف صورة الصوف المبلل تقلا اكبر يبطئ من حركة القصيدة ويزيد من جسامة الكابوس الهامد فوق العمر فيشكل بذلك صورة معادلة لصورة الرجل الجاثم فوق العم في بداية القصيدة .
أما النصف الآخر فتعطيه الى الرجل الذي بدا ضعيفاً وصامتاً لا يملك سوى اجترار الحاضر وامتصاص رحيقه من غير وجه حق ولعن المستقبل المجهول الذي لاغرو انه سيكون مرا نتيجة لتلك المقدمات الكابوسية .
توظف الشاعرة هذا التناقض الحاد بين ( رحيق ) و( مر) لإعطاء صورة حادة المعالم لظلم سائد ومرارة مريعة من الحاضر حتى المستقبل أما تصويرها لبنات غير قادرات على بلوغ حبل الغسيل فيمكن أن يعدّ إنباءً عن تدني آمال المرأة في مجتمع يضع الرجل وان كان خلوا من الحياة وثقيلا كالحرب عاليا فوق أيامها وليس له وسيلة لإعلان علوه وارتفاعه سوى اللعن الذي لا يعلم انه سيؤول به الى الصمت في حين يرتفع صوت المرأة .
هكذا نرى بان القصيدة تمر بعوالم ثلاثة ،
أولها : عالم القهر والعجز والضعف الذي ترسمه صورة البنات العاجزات والرجل الجاثم المتجبر كالحرب ؛
ثانيا : عالم اليوتوبيا والأحلام الممتد من الطفولة حتى نضج الأحلام في عالم معادل للحاضر لكنه لا ينتمي الى عمر الشاعرة المقسم الى نصفين ،
وثالث : عالم التمرد والمواجهة الذي تظهر فيه البنات مع عجزها وكأنها تمتلك طاقة ستمكنها يوما من القفز لتصل حبل الغسيل
( وهذا ما تأمله الشاعرة فقد كانت تأمل أن تقفز تلك البنات ولم يفعلن ) وظل حبل الغسيل ينتظرهن - ذلك الغسيل الذي يبدو انه صار قدرها ؛
أما الرجل فكان جالسا بعيدا بصمت يعلن عجزه بالسباب واللعن ، فلم يعد ذلك الجاثم فوق العمر بل هي التي تحتج عليه لامتصاصه رحيق حاضرها .
من هنا نرى إن القصيدة صرخة أنثوية في عالم ذكوري شرقي ينتمي الى الوجود الطاغوتي المتمثل بالحاكم المستبد والزوج المتسلط الذي قد لا يمتلك أية فضيلة سوى امتلاكه الجسد الذكوري ، وهي زفرة حنين الى عالم الطفولة الذي يتساوى فيه بنحو الإنسانية من ذكور وإناث تحكمهم أحلامهم وتطير بهم خيالاتهم وفي القصيدة موقف سياسي يلعن النظام الطاغوتي ، المتجبر المتمثل بالرجل الذي اقترن اسمه بالحروب وهو ( صدام حسين ) .

حسين ناصر جبر

0 التعليقات: